نص نظريات الاشهار اولى باك مكتوب
يلتقي الإشهار وباقي الفنون التصويرية والتعبيرية التي تُسَخر أدوات التعبير للتأثير فكريًا ونفسيًا وجماليًا في المتلقي. ونظرًا لاقتحام الإشهار لأهم الوسائط في حياة الإنسان المعاصر، بما فيها من وسائل سمعية وبصرية، فإنه أصبح يزاحم الفنون الأخرى المكتوبة والمرئية على السواء. وإذا ما نحن تنبهنا على سبيل المثال إلى الحصة الزمنية التي يأخذها من وقت الناس في فواصل البرامج التلفزية وصفحات المحلات والجرائد واللوحات الإشهارية الملصقة على الجدران وأعمدة الطرق، فإننا سندرك إلى أي حد أصبح الإشهار يفرض نفسه قشرًا على الناس في المجتمع الرأسمالي الحالي. ولأن الحاجة إلى الاستمرارية في هذا الإشراط الإشهاري باتت ضرورية لضمان ترويج السلع، فإن هذا الوضع قاد إلى مزيد من التفنن والإبداع في وسائل التعيير، وتكييف الصورة واللون والحركة وابتكار المواقف والأفكار من أجل شد الانتباه.
ويستند الخطاب الإشهاري في صياغته وإخراجه الى نظريات متعددة تسعى كلها إلى تحقيق الغاية الأساسية التي لا تتغير، وهي افتناء المستهلك للمنتوج أو القبول عن طواعية بأداء قيمة الخدمة المقدمة. ويحمل المختصون هذه النظريات، على اختلافها، في الآتي:
نظرية القيمة: ويعتبر الإشهار من وجهة هذه النظرية مصدرًا للإخبار عن المنتوجات أو الخدمات. ويتم التركيز في هذه الحالة على قيمة المنتوج في حد ذاته مع التعريف به وبمزاياه، وليس هناك مانع في هذه الحالة من أن يكون الخطاب أو العرض مستخدمًا لعناصر جمالية وفنية، لكن الركيزة الأساسية غالبًا هي الإقناع بالقيمة الحقيقية للمنتوج أو الخدمة أو الأفكار المعروضة للبيع.
النظرية السلوكية: وتستند هذه النظرية إلى أن المستهلك، يمكن إشراط عاداته الاقتنائية، وجعلها على الدوام غير منفصلة عن الإشهار، بمعنى الحيلولة بينه وبين قيام أي علاقة مباشرة بالمنتوج، إلا إذا تم ذلك بواسطة الإشهار حتى تتكون لديه عادة الامتناع عن الاقتناء إذا لم يكن الإشهار مصاحبًا لإنتاج السلعة وتسويقها. ويعتمد الخطاب الإشهاري في هذه الحالة على التكرار الدائم لوصلات الإشهار ومحاصرة المستهلك في التلفاز والراديو والصحف والمحلات والأماكن العمومية، بإشهار واحد أو بعدد محدد من اللقطات الإشهارية.
النظرية السيكولوجية: وتركز أيضًا على شخص المستهلك، مع الإلحاح على الجانب اللاواعي بشكل خاص، بما يتضمنه من رغبات خفية غريزية، ومشاعر وعواطف حميمية. ويرى البعض أن منتج الإشهار يحتال في هذا النمط الإشهاري لضبط مواطن الإغراء والاغترار لدى الزبناء، ولممارسة التأثير النفسي والوجداني عليهم. وبذلك يتحول المشتري من مقتن بدافع الحاجة إلى مقتن بدافع الرغبة، بمعنى أن الشراء سيتحول إلى هوس سيكولوجي من اجل الشراء.
النظرية الاجتماعية: وهي تهدف إلى تمجيد السلعة باعتبارها مرتبطة بعادات وتقاليد أصيلة عند فئة اجتماعية أو مجتمع بكامله، وكأنها تدعو المستهلك إلى انتماء اجتماعي أو فكري إذا ما وافق على اقتنائها لذلك يرتطز الاشهار على الانماط المتميزة للحياة الاجتماعية المقصودة. بما فيها من قوانين وعادات أصيلة، ويتخد الإشهار في هذه الحالة صورة علامة على سلوك اجتماعي أو هيئة او نمط فكري، وتقمص فيه السلعة المفروضة هذا السلوك أو تلك القيمة.
النظرية الاقتصادية: وهي التي تعتمد على المنافسة في الأثمان، أي على الجانب الاقتصادي في النفقات الفردية. بحيث يتم الإيهام بأن السلعة أو الخدمة ممتازة، وأن السعر لا يضاهى، ويُلحق بهذا الجانب كل الوسائل المقترحة للتسهيلات في الأداء، وفيها القروض والأقساط الشهرية وغيرها.
ان وجود هذه النظريات المختلفة، لا يعني أن الخطاب الإشهاري يطبق واحدة دون الأخرى، بل إن المختصين هنا لا يتحدثون في الواقع إلا عن الجانب الغالب في كل نمط، ومعنى ذلك أن الإشهار قادر على توظيف هذه الإمكانات التعبيرية كلها في الآن نفسه، بتفاوت ملحوظ في حضور بعضها على حساب البعض الآخر. لذلك يمكن الحديث عن تفاعل وظائف متعددة في الخطاب الإشهاري، مثل الوظيفة الإقناعية، والوظيفة الحمائية، والوظيفة القيمية، والوظيفة السلوكية، وغيرها من الوظائف التي تعمل على دفع الأفراد والجماعات إلى القيام بفعل الاقتناء أو قبول الخدمات أو الأفكار المعروضة.
حميد الحمداني، "مدخل لدراسة الإشهار"، مجلة علامات العدد 18، 1998، ص 75 وما بعدها، بتصرف.
ملاحظة النص
1- قراءة في العنوان
عنوان النص جملة اسمية يوحي بتعدد النظريات التي يرتكز عليها الاشهار ويسخرها للتأثير في المتلقي ودفعه الى الاقتناع بما يعرض عليه.
2- فرضية القراءة
بناء على دلالة العنوان والجملة الاولى من النص والعناوين المكتوبة بخط بارز، نفترض أننا بصدد مقالة حجاجية تفسيرية يتمحور موضوعها حول تبني الخطاب الاشهاري لنظريات علمية تهدف الى دراسة أليات عمله.
فهم النص
1- القضية المحورية
يبرز الكاتب في هذه المقالة التفسيرية الكيفية التي يؤثر بها الاشهار فكريا ونفسيا وجماليا في المتلقي، وذلك عبر استناده في تكوينه على نظريات متعددة هدفها الأساسي دفع المستهلك لاقتناء المنتوج والقبول به.
2- محاور النص
- من بداية النص الى ... الانتباه: غزو الاشهار لأهم الوسائط في حياة الانسان المعاصر بهدف التأثير فيه ودفعه الى القبول طواعية بكل ما يعرض له.
- من ويستند الى ... وغيرها: استناد الخطاب الاشهاري الى نظريات يجمع بينها قاسم مشترك واحد هو التأثير في المستهلك واقناعه بقيمة المعروض له، وقد ثم تحديدها في: نظرية القيمة التي ترتكز على قيمة المنتوج وذلك باظهار مزاياه ومحاسنه.
والنظرية السلوكية والسيكولوجية وكلتاهما تقومان على فرضية مفادها ربط صلة وطيدة بين المستهلك والمنتوج عبر الحضور الدائم للاشهار. والنظرية الاجتماعية التي تعمل على تمجيد السلع خاصة تلك التي لها طابع متميز وخاص وأصيل في المجتمع. والنظرية الاقتصادية وتسعى الى الايهام بواقعية الأسعار المقترحة.
- من: ان وجود... الى نهاية النص: يختم الكاتب نصه بخلاصة مفادها أن كل هذه النظريات حاضرة بشكل متفاوت في الخطاب الاشهاري.
تحليل النص
1- المعجم
يتوزع معجم النص على ثلاثة حقول دلالية رئيسية وهي:
الحقل السيكولوجي: اشراط، العادات الاقتنائية، اللاوعي، التأثير، نفسيا، النفسي والوجداني، رغبات خفية غريزية، مشاعر وعواطف حميمية، الاغراء، الاغترار، هوس سيكولوجي...
الحقل الاجتماعي: عادات وتقاليد أصيلة، فئة اجتماعية، مجتمع بكامله، انتماء اجتماعي، الحياة الاجتماعية، قوانين، سلوك اجتماعي، المجتمع الرأسمالي، الناس ...
الحقل الاقتصادي: المنتوج، ترويج السلع، المستهلك، قيمة الخدمة، انتاج السلعة وتسويقها، الاقتناء، المنافسة في الأثمان، الجانب الاقتصادي، النفقات الفردية، السعر لا يضاهي التسهيلات في الأداء، القروض، الأقساط الشهرية...
والعلاقة بين كل هذه الحقول، تتمثل في كونها عناصر حاضرة في صناعة الخطاب الاشهاري، ومتصلة بالمستهلك وحاجاته وتطلعاته، كما أنها تكشف عن المنحنى الذي أصبحت صناعة الاشهار تسير فيه، من خلال جعل هذا الخطاب مضمار اللابداع والثراء الفني والمعرفي.
2- أسلوب النص
من بين العناصر التي توسل بها الكاتب في عرض أهم مقومات الاشهار وتفسيرها، الاحالة على نظريات متعددة المرجعيات مفسرة للظاهرة الاشهارية، في أسلوب علمي تقريري اقناعي مركز، وتحديد المعطى الأساسي في كل نظرية في علاقته بواقع الاستهلاك. اضافة الى استعمال المعجم العلمي المتنوع، والمنهجية القائمة على العرض المنطقي للأفكار، وفق أسلوب استنباطي يتخد من العام منطلقا انتهاء الى الخاص فضلا عن لمسات فنية لغوية استدعتها طبيعة اللغة الخلاقة.
3- حجاج النص
توسل حميد لحمداني ببنية حجاجية متينة، أراد من خلالها التأكيد على رأيه واثبات فكرته، شرحا وتفسيرا على نحو جعل نصه متسقا ومنسجما.
ولعل أهم ما يصادفنا في بداية النص، أسلوب العرض والتقديم بوصفه أسلوبا حاملا للقضية المركزية، مستعينا بأسلوبي الشرح والتفسير كألية لغوية، رام من خلالها بسط معطيات قضيته، الى جانب أسلوب الوصف الحاضر بقوة في النص، مناصفة مع أسلوب السرد الذي أضفى عليه سلاسة قرائية. بالاضافة الى أسلوب الجرد والتصنيف الذي يبدو في ذكره للنظريات الأربعة التي يرتكز عليها الخطاب الاشهاري، ناهيك عن أسلوب التوكيد.
تركيب وتقويم
الخطاب الاشهاري متعدد المرجعيات النظرية، مستند الى وسائل تعبيرية وتصويرية متعددة، تجعله خطابا معقدا وحاضرا بقوة في عالم يعرف تراكما معرفيا يوازيه تراكم مهول في المنتوجات والخدمات ما ينتج عنه اشتداد في المنافسة على كسب ثقة المستهلك. غير أنه ان كان يبدو في ظاهره مسخرا لخدمة المستهلك، فانه يخفي في العمق الكثير من السلبيات، وينتج الكثير من الأزمات المالية والنفسية والاجتماعية؛ فقد يورط المستهلك في التزامات مالية لا يستطيع الوفاء بها، كما يهيج الحقد الاجتماعي بين الطبقات، وقد يتحول العجز عن الشراء الى مشاكل نفسية ورغبات مكبوتة، وقد يترجم الى جرائم تهدد أمن المجتمع وسلمه.
0 تعليقات