تحليل ومناقشة سؤال فلسفي حول الشخص بين الضرورة والحرية
السؤال : هل تشكل حرية الغير عائقا أمام حريتي؟
الشخص بين الضرورة والحرية نموذج تطبيقي
المقدمة
يُعتبر الإنسان كائناً معقداً بامتياز، وهذا ما جعل العديد من الفلاسفة والعلماء يدرسونه بحثاً عن ماهيته وتحديد جوهره وكنهه، مما يدل على تعقيده وصعوبة تركيبه. ويعود هذا التعقيد إلى التغيرات التي تلحق الوضع البشري مع تغيّر الزمن. فالإنسان، من خلال عيشه في المجتمع واحتكاكه بالعالم الخارجي، يراكم مجموعة من التجارب النفسية ويكتسب خبرات متعددة، مما يساعده على تأسيس هويته. فيكتسب قيمة تمنحه حرية في مقابل المسؤولية. وهذا ما يُحتم عليه أن يشعر ويعترف بوجود الغير، لكونه يعيش مع الآخرين، فيتوجب عليه التعرف عليهم وبناء علاقات معهم.
يندرج السؤال قيد تحليلنا ضمن مجزوءة "الوضع البشري"، والتي تحيل إلى الإنسان في بعديه الذاتي (الشخص) والتفاعلي (الغير). ويرتبط موضوعها أساساً بمفهوم الشخص، الذي يسلط الضوء على محور "الشخص بين الضرورة والحرية"، بحيث تظهر مقارنة جوهرية وعميقة تتمثل في الشخص مقابل الضرورة كخضوع، ومقابل الحرية كاستقلال.
وبما أن الفلسفة هي الطرح الدائم للسؤال، فإن السؤال الماثل أمامنا يفرض على كل قارئ له طرح مجموعة من التساؤلات يمكن صياغتها كالتالي:
- هل الشخص حر أم أنه خاضع للضرورة؟
- كيف يمكن اعتبار حرية الشخص محدودة؟
- هل يمكن القول إن حرية الشخص مطلقة؟
مطلب التحليل
عادة ما يُقال إنَّ الفلسفة أداة حوار، ولعل السؤال الفلسفي هو أكبر أداة حوارية بامتياز. ولعل السؤال الفلسفي الماثل أمامنا، وبعد حذفنا لأداة وعلامة الاستفهام، يتضمن أطروحة جوهرية تتمثل في أن حرية الغير تشكل عائقاً بالنسبة لحريتي. حيث إن حرية الشخص تصبح محدودة في حالة وجود حرية الغير، إذ حرية الشخص رهينة بحرية الآخر. وبالتالي فهو خاضع ولا يستطيع أن يتصرف باستقلالية وطلاقة، فوجود الآخر يُحتم عليه أن يُحد من حريته.
ولعل هذا يُرسخ صوراً من واقعنا المعيش. فعند تواجد شخصين في غرفة واحدة، أحدهما يريد أن يضيء الغرفة والآخر يريد العكس، فإن إضاءة الغرفة تمنح الشخص الأول حرية كاملة، في حين تكون حرية الشخص الثاني غائبة، والعكس صحيح. هذا المثال المصغر يُجسد ما نعيشه يومياً في مجتمعنا من صراع بين الأفراد، حيث يسعى كل فرد لإثبات حريته على حساب حرية الآخر وإرادته.
بما أن الأطروحة تُبين مفهوماً وتدافع عنه حجاجياً، وبما أن الفلسفة إبداع مفاهيم كما جاء على لسان "جيل دولوز" في كتابه ما هي الفلسفة... فإن السؤال الذي نحن بصدد الاشتغال عليه يتضمن مجموعة من المفاهيم الأساسية والمركزية. فعلى سبيل المثال، نجد مفهوم الشخص، الذي يُحيل إلى الفرد في بعده المادي باعتباره جسماً حياً ومظهراً، وبعده المعنوي لكونه ذاتاً عاقلة وواعية وحرة قادرة على تحمل مسؤولية أفعالها. كما نجد مفهوم الحرية، الذي يُقصد به استقلالية الذات فكراً وتصرفاً، وعدم خضوعها لأي إكراهات مادية أو نفسية. إضافة إلى مفهومي الشخص والحرية، نجد مفهوم الغير. فحسب سارتر، يُعني الغير الأنا الذي ليس الأنا، الذي يُشبهني ويختلف عني في نفس الوقت. وحسب رويوبر، الغير هم الآخرون من الناس بوجه عام.
انطلاقاً مما سبق، وبعد جردنا ومقاربتنا للمفاهيم الأساسية في النص، يتضح أن هذه المفاهيم تحمل في ثناياها علاقة يمكن وصفها بالمتنافرة، لكون وجود الغير وحضور حريته يُحد من حرية الشخص ويُشكل عائقاً أمامها.
وفي نفس السياق، نجد أن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، صاحب كتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة"، يقول إن الشخص خاضع للضرورة، وإن أفعاله محكومة بمجموعة من الإكراهات الطبيعية. فالحريّة حسبه مجرد وهم، لأن الناس يظنون أنهم أحرار، بينما هم يدركون الأفضل ويقومون بالأسوأ بسبب جهلهم بالأسباب المحركة لهم.
من الملاحظ أن مفارقة الشخص في مقابل الحرية والضرورة من المفارقات الكبرى التي تمت مقاربتها من طرف جملة من الفلاسفة والباحثين، مما فتح باباً للنقاش والجدال الفكري حولها. وهذا يمنحها قيمة معرفية وتاريخية كبرى. إذ تتجلى القيمة المعرفية للسؤال أساساً في طرحه لموضوع حرية الشخص وحدودها، وعدم إغفاله لوجود الغير ودوره في تحديد حدود الحرية الشخصية. إضافة إلى ربطه بين حرية الآخر كغير وحرية الذات كشخص، وصياغتها في علاقة جدلية يمكن تشبيهها بالليل والنهار، حيث يؤدي حضور الآخرين حتماً إلى غياب الآخر.
وبما أن لكل أطروحة فلسفية حدوداً، فإن الأطروحة التي نحن بصدد تحليلها تُغفل قضية أن ضمان حرية الآخر يساعدني على ضمان حريتي. فإذا ساعدت الغير على نيل حريته، يساعدني هو الآخر على بلوغ حريتي باعتباري غيراً بالنسبة له. كما أن الشخص له حيز من الحرية – ولو ضئيل – لا يدخل فيه الغير، ويظل الشخص حراً في اختياراته وقراراته ما دام في هذا الحيز.
إن تأويلنا لهذا السؤال ليس من باب إطلاق أحكام قيمة، وإنما جاء من أجل إغناء السؤال واستخراج مكبوته. وهذا ما يمكن أن نسميه في مجال الفلسفة بـ"النقد من أجل البناء". لذلك رأينا أن القولة قد عالجت قضية كون حرية الآخر تحد من حريتي الخاصة، وبالتالي فهي محدودة. على خلاف ذلك، يرى الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، صاحب كتاب الوجود والعدم، أن الإنسان حر حرية مطلقة، فهو مشروع حرية مستقبلية لكون وجوده سابقًا على ماهيته. فالشخص يُولد حرًا ويحدد ماهيته فيما بعد. إنه الكائن الحر بامتياز، لكونه الوحيد الذي يعطي لحياته معنى خاصًا.
في نفس السياق، نجد أن الفيلسوف الفرنسي موني، صاحب كتاب الشخصانية، قد أكد هو الآخر على أن الشخص حر في تقرير مصيره، ولا يمكن معاملته على أنه شيء بين الأشياء أو بوصفه مادة جامدة. إذ يعتبره قيمة مطلقة. ومنه، لا يمكن تسخيره من قبل الجماعة بوصفه وسيلة لأنه غاية في ذاته. إن الشخص حر في تقرير مصيره ولا يحق لأي كان، فردًا أو جماعة، أن يقوم مقامه في ذلك.
خلافًا لكل ما سبق، يقدم الطبيب النمساوي فرويد، صاحب كتاب "تأويل الأحلام"، وجهة نظر مخالفة. إذ يرى أن الشخص خاضع لمجموعة من الضرورات النفسية. فجهازه النفسي يتكون من خلال الصراع بين ثلاثة محددات: الهو، الأنا، والأنا الأعلى. إذ يسعى الأنا إلى تحقيق متطلبات الهو الغريزية عن طريق إشباع الملذات والشهوات، محاولًا إرضاء الأنا الأعلى الذي يكون بمثابة ضمير يشكل رقيبًا على الأنا ويرفض تحقيق رغبات الهو. ومنه، فالأنا يعيش صراعًا دائمًا بين الهو من جهة والأنا الأعلى من جهة أخرى.
مطلب التركيب (خاتمة)
وكتخريج عام، وبعد تحليلنا لأهم المفاهيم المدرجة في السؤال: الشخص، الحرية، الغير، وبعد تحديد الأطروحة المتمثلة في كون حريتي محدودة بحرية الغير، وبناءً على المواقف السابقة، يمكن القول إن مفارقة الشخص في مقابل الحرية والضرورة قد فتحت أمامنا باب التحليل كدارسين للفلسفة، وفتحت باب النقاش أمام ثلة من الفلاسفة الذين تركوا بصمتهم في تاريخ الفلسفة برمته. إذ أكد سبينوزا أن الحرية وهم، وأن الشخص خاضع لإكراهات طبيعية. ورأى سارتر بأن الشخص حر حرية مطلقة. ودافع موني عن أن الشخص حر في تقرير مصيره. في حين أن فرويد قال بفكرة كون الشخص خاضعًا لضرورات نفسية تنبع من صراع داخلي.
وكرأي شخصي، أعتقد بأن الحرية تظل نسبية، فهي رهينة بالمواقف والأزمنة والأشخاص. فهي تبقى مطلقة ما دامت لم تمس بحرية الآخر ولم تؤذه. ومن هنا، تنبع لدينا إشكالية جوهرية أخرى تتمثل في أهمية وجود الغير، وهي إشكالية يمكن صياغتها كالآتي: هل وجود الغير ضروري لوجود الأنا؟
إرسال تعليق